علبة الحذاء | فصل

غلاف رواية «علبة الحذاء»

 

أصدرت الكاتبة والشاعرة الفلسطينيّة صونيا خضر روايتها الجديدة تحت عنوان «علبة الحذاء» عن «منشورات إبييدي» (2021)، وهي رواية تمتدّ أحداثها من سبعينيّات القرن الماضي حتّى عام 2020.

تتحدّث الرواية عن ثلاث شخصيّات فلسطينيّة بين لاجئ، ومغترب، ومواطن، تجمعهم الصدفة في مدينة برشلونة الإسبانيّة، في وقت يتوقّف فيه الزمن بسبب جائحة كورونا، ما يمكّنهم من تشارك تجاربهم الحياتيّة. تدور أحداث الرواية بين سبعينيّات القرن الماضي وعام 2020، وتتوازى أحداثها مع التغيّرات والأحداث السياسيّة منذ ذلك الوقت، وآثارها على شخصيّاتها الرئيسيّة. 

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الرواية بإذن من الكاتب.

 


 

بيت زجاجيّ

ثلاثة آلاف يورو، دفعتها لكريستيانو، لقاء قضاء أسبوعين في البيت الزجاجيّ المكوّن من طابقين. كنت أعتقد أنّ هذه البيوت موجودة فقط في الصور، أو يملكها الأغنياء لتمضية بعض الوقت والمتعة، خاصّة إن كانت تطلّ على البحر، أو على حوض سباحة، كما في فيلم «Sleeping with the Enemy»، من بطولة جوليا روبرتس، والّذي شاهدته أكثر من مرّة، دون أن يخطر ببالي ولو لمرّة واحدة بأنّني سأقيم في بيت يشبهه ولو ليوم واحد.

كان كريستيانو قد قال لنا إنّه يرغب بمساعدتنا، وحين طلب هذا المبلغ، لم أفهم ما هي طبيعة الخدمة الّتي أسداها لنا. مبلغ ثلاثة آلاف يورو نعيش عليه أنا وعائلتي أقلّه لمدّة عام، فكيف أدفعه مرّة واحدة للإقامة بمنزل لمدّة أسبوعين؟ لم يكن من مناصّ أمامي، فنحن لا نعرف أحدًا، ولن نجد مكانًا لنقيم فيه إن رفضنا هذا العرض. وقت دخلنا المنزل قال لي جواد:"يبدو أنّ كريستيانو قد أسدى لنا خدمة فعلًا، فهذه البيوت يتمّ استئجارها بضعف هذا المبلغ".

فهمت، ولم أفهم. نعم، إنّه منزل جميل جدًّا ويطلّ على البحر، لكن نحن لا ندفع قسطًا من ثمنه، نحن نهدر المال فقط. نعم، كنت أحلم دائمًا بأن يكون لي بيت من طابقين، لأقيم فيه مع سلمى وعائلتي، بأقلّ قدر من الضرر على علاقتي بسلمى.

لا أريد أن أسمح للضجر، أو الخجل، أو الروتين، بأن يفسد حلمنا بحياة زوجيّة رومانسيّة. كنّا نحلم خلال السهرات الطويلة الّتي نقضيها معًا، كلّ خلف شاشة حاسوبه، بمساحة خاصّة لا يقترب أحد منها. كنبة بيضاء بمقعدين، أمام تلفاز كبير وتحت غطاء واحد، رأسها على كتفي وشعرها يسيل على صدري. اتّفقنا أنّه لا بأس من مطبخ مشترك بيننا وبين عائلتي، متنازلين عن حلم عناقها وتقبيلها وهي تعدّ القهوة، وجلوسنا متقابلين حول طاولة المطبخ الصغير لتناول الطعام والنبيذ. على أن يكون لغرفة نومنا شرفة نمارس فيها طقوس عاشقين يتناولان طعامهما بعيدًا عن العيون.

انتقلت أمّي بعد زواجها من أبي إلى بيت عائلته، في مخيّم اليرموك في سوريا، وسكنت معه في غرفة صغيرة تمّ إغلاق جهتها المفتوحة على غرفة المعيشة بستارة. كثيرًا ما كانت تروي لنا قصّة زواجها من أبي الّتي لا تخلو من الطرافة، فقد أحبّته لدرجة أنّها وافقت على كلّ الظروف الصعبة من أجل العيش معه. قَبِلَتْ أن تكون الشخص الثامن المضاف لعدد أفراد العائلة، وبأن تجلس بثوب زفافها على مقعد بلاستيكيّ مربوط بحديد الشاحنة الصغيرة بين روث الماشية، ليعلق القشّ بثوبها وشعرها وتنقله إلى الغرفة، حيث أمضى العروسان ليلتهما الأولى بتنظيف شعرها من القشّ العالق بمثبّت الشعر والدبابيس. تَتْبَعُ تلك الطرفة بتنهيدة، تشي بأنّ تلك الليلة كانت أفضل من الليالي الأخرى الّتي قضتها مع عريسها بالخوف من سماع حركتيهما وهماستهما خلف ستارة الغرفة.

لكثرة ما تندّرنا بغرفة زواج أمّي وأبي، الّتي يحدّها من الشمال نافذة صغيرة تطلّ على قنّ الدجاج الصغير والديك سيّء الطباع، ومن الشرق والغرب حائطان رقيقان مصدّعان أَخْفَتْ شقوقهما بالقماش، ومن الجنوب ستارة كثيفة فوق ساتر خشبيّ يُستعمل كباب يزيحونه كلّما أرادا الدخول والخروج من الغرفة؛ بات حلمي بالزواج مقترنًا بغرفة واسعة، بجدران سميكة، وباب خشبيّ ثقيل يتوسّطها سرير خشبيّ كبير لا يُسْمَعُ صريره تحت اهتزاز اللحظات الحميمة. وألا تقتصر اللحظات الحميمة على غرفة النوم؟ كثيرًا ما تساءلت كيف ينجبون الأطفال في البيوت الصغيرة والمكتظّة؟ كيف يكتم العشّاق شهقات أجسادهم المحمومة؟ وكيف يمارسون الحبّ خلف الجدران الرقيقة والأبواب نصف المغلقة؟ وكيف لصرير الأسرّة تحت اهتزاز أجسادهم بأن يكتم أنينه في ذروة اللذّة؟

الأطفال الّذين يجيئون إلى هذا العالم من ممارسات سريعة وشهقات مكتومة هم أطفال متجهّمون وبائسون، قلقون من ضجيج الحياة وأسرارها، متربّصون للعتمة وخائفون من الضوء. وأنا أريد أطفالًا سعداء، يعرفون الوجه المضي للحبّ، ويلعبون في باحة المنزل وغرفهم ذات الجدران الملوّنة.

ضمنًا وتعاطفًا مع مأساة أمّي بالحياة وبالحبّ بغرفة زواجها، لا أستطيع أن أحلم بمنزل مستقلّ لي ولسلمى، أمّي الّتي أنجبتنا وربّتنا في تلك الغرفة لا تفارق حلمي ببيت واسع. أشعر أنّها تستحقّ منّي ذلك، وينتابني الشعور بالذنب إن حلمت ببيت لا مكان واسع لها فيه، تحديدًا في هذه اللحظة وأنا أغلق خلفي باب الغرفة الواسعة، وأستعدّ لأخذ حمّام دافئ في الحمّام الّذي على يمين بابها الخشبيّ الثقيل. أفكّر بالحيل الحنونة الّتي كانت تبتكرها لإلهائنا خارج البيت لكي تستحمّ.

إنّه منزل جميل فعلًا، ويستحقّ المبلغ الكبير الّذي دفعته للإقامة فيه لأسبوعين، حاولت إقناع نفسي بذلك وأنا أمسح دموعي تحت الماء الغزير الّذي يضرب رأسي بشدّة.

يقضي جواد وقته بالاستمتاع بالحديقة، في ما أنا أكتشف زوايا هذا البيت الّذي دُفِعَ إيجاره ثلاثة آلاف يورو. تختلط الأفكار في رأسي، حتّى في أفضل الأحوال، ولو دفعت كلّ المال الّذي أصبحت أملكه لن أتمكّن من شراء هذا البيت، فلا أوراق تؤهّلني من ذلك، ولا طريقة أستطيع بها إحضار عائلتي وسلمى للإقامة معي فيه. مغامرة حصولي على جواز سفر مزيّف كلّفتني عدا المال، احتمال القبض عليّ من قبل السلطات اللبنانيّة أو الإسبانيّة. وقف الحظّ إلى جانبي حتّى هذه اللحظة، لكنّني لا أضمن استمرار وقوفه. فكرة اللجوء السياسيّ إلى بلد أوروبيّ، إسبانيا، هي مجرّد محطّة أولى أحاول فيها البقاء تحت اسم مستعار وأوراق ثبوتيّة مزوّرة، إلى أن تلحق بي سلمى ونتزوّج لنغادر إلى كندا، حيث سأمزّق كلّ أوراقي الثبوتيّة وأطلب اللجوء السياسيّ، وأُسْرعُ في معاملات عائلتي الّتي كنّا قد أرسلناها إلى دائرة اللجوء هناك قبل قضيّة الميراث.

أفكار كثيرة تدور في رأسي وأنا أتفقّد المنزل، أتخيّل أمّي وهي تحاول تدويره وتغيير مواقع أثاثه ليصبح فيه متّسع لأكثر من خمسين شخصًا. بيتنا الصغير الّذي لا تتجاوز مساحته الثمانين مترًا مربّعًا، جعلته يتّسع لخمسة أشخاص، كلّ في مكانه وزاويته. أتخيّلها وهي تعدّ الطعام في هذا المطبخ الأنيق، وكيف ستجرؤ على تلويث السخّان الكهربائيّ بقدحة الثوم. أتخيّلها وهي تَجِدُ كلّ ما يلزمها للطبخ في هذا المطبخ، وبأنّها لن تضطّر لإفراغ القدر في وعاء آخر، لتعيد استعماله لطهي الأرزّ، إن توفّر. مطبخ بلون أبيض، أوان زجاجيّة فاخرة، وملاعق من السيليكون اللطيف الّذي لا يخدش سطوح «التيفال» الناعمة.

"لا بدّ أنّ أمي سيغمى عليها من الفرح إن كانت سيّدة هذا المطبخ، وقد تنام على الكنبة الجلديّة البيضاء فيه آخر النهار"، قلت لجواد وأنا أصبّ القهوة لنا.

وربّما ستفعل أمّي ذات الشيء، أجابني ضاحكًا.

 


 

صونيا خضر

 

 

 

شاعرة، وكاتبة، وروائيّة تقيم في رام الله. نشرت عددًا من الكتب، والروايات ومن بينها: «كلب الحراسة الحزين» (2019)، و«باب الأبد» (2016).